الكنيسة الكلدانية في العالم

تاريخ الكنيسة الكلدانية في العالم

الكنيسة الكلدانيَّة الكاثوليكية المعروفة أيضاً باسم كنيسة بابل الكلدانية هي كنيسةٌ ولدت في بلاد ما بين النهرين وقد وصلت إليها بشارة الخلاص على ما يقول التقليد، بواسطة القديس توما الرسول وتلميذيه أدّاي وماري. الكنيسة الكلدانية ناطقةٌ باللغة السريانية بلهجتها الشرقية التي تتحدّر من اللغة الآرامية، وهي لغة السيد المسيح.

الكنيسة الكلدانيَّة لها جذورٌ مشتركة مع الكنيسة الآشورية إذ كانت الكنيستان قبل القرن الخامس عشر تؤلّفان “كنيسة المشرق”.[1]

إنشقّت الكنيسة الكلدانيَّة عن كنيسة المشرق الآشورية عام 1552[2] بعد أن كانتا قد عاشتا معاً مرارة انقسامٍ آخر ضرب المسيحية عام 431 إبّان مجمع أفسس [3]

إنتخب القسم الكلدانيّ من كنيسة المشرق الراهب يوحنّان سولاقا إذ كان يشغل منصب رئيس دير الربّان هرمزد، بطريركاً على الكنيسة الكلدانية، فانطلق هذا الى الكرسي الرسولي وتعهّد أمامه بالإنضمام الرسمي الى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. قرّر البابا يوليوس الثالث بتاريخ 20/3/1552 إعلان يوحنان سولاقا بطريركاً، وفي التاسع من نيسان من العام ذاته رُسم أسقفاً وتسلّم درع السلطة. في هذه الأثناء عرفت كنيسة المشرق بطريركين أحدهما مقرّهُ في مدينة القوش في شمال العراق والآخر بابوي ومقرّه في ديار بكر في جنوب شرق تركيا.

تاريخُ كنيسة المشرق الكلدانية حافلٌ بالاضطهادات والنكبات، بالرّغم من كونها الكنيسة الأكثر انتشاراً في القرون الأولى للمسيحية، إذ بلغت بلاد ما بين النهرين والهند والصين… ولكنَّ الحملات المضادَّة التي شُنَّت على أبنائها من قِبل الوثنيّين ومن ثمَّ المسلمين… انتهاءً بما يحصُلُ في العراق منذ العام 2003، أطلق على كنيسة المشرق الكلدانيةِ وبحقٍّ، لقَبَ كنيسة الشُّهداء.

بعد اضطرابات في العلاقة بين القسم الكلداني وكنيسة روما عرفتها على وجهٍ خاص السنة 1662، لم تكتمل الشركة الكاملة مع روما الكرسي الرسولي إلا في العام 1830 حينما قام البابا بيوس الثامن بمنح البطريرك الكلداني لقب بطريرك بابل على الكلدان[4].

لطالما كانت الكنيستان في توقٍ دائم الى اللقاء لأنهما يحملان تاريخاً مشتركاً ويميّزهما طقسٌ واحدٌ ولغةٌ واحدةٌ وقافلةُ شهداء واحدة وقديسون مشتركون وجغرافيا واحدة.

وفي هذا السياق، لا بُدَّ لنا من الإشارة الى الإعلان الخريستولوجي المشترك الذي صدر عن الكنيستَين الكاثوليكية والآشورية، بشخص البابا القديس يوحنا بولس الثاني والبطريرك مار دنخا الرابع في روما، في 11 ت2 عام 1994.

إنَّ هذه الوثيقة لهي مرحلةٌ أساسيةٌ في تاريخ الكنيسة الكلدانية الحديث. لقد جاء في هذا الإعلان الإيماني المشترك ما نصُّه: ” نعترفُ بربّ ٍ واحدٍ يسوعَ المسيح، ابنِ الله الوحيد المولودِ من الآب قبل كُل الدهور الذي، وفي ملء الأزمنة، نزل من السماء وصار إنساناً لأجل خلاصنا.  كلمةُ الله، الأقنومُ الثاني من الثالوث القدوس، تجسّد بقوّة الروح القدس آخذاً من العذراء مريم جسداً “(…) “ربُنا يسوعُ المسيحُ هو إذاً إلهٌ حقٌ وإنسانٌ حقٌ، كاملٌ في الوهيّته وكاملٌ في إنسانيّته مساوٍ للآب في الجوهر ولنا نحن أيضاً ما عدا في الخطيئة. إنّ الوهيّته وإنسانيّته متّحدتان في شخص ٍ واحدٍ بلا تشوّشٍ ولا تبدُّلٍ ولا انقسامٍ ولا فصلٍ” (…) ويُضيف الإعلانُ  قائلاً: “كلمةُ الله المولودُ من الآب قبل الدهور، بدون ابتداءٍ بحسب الوهيّته، قد وُلد من أمٍّ في الأزمنة الأخيرة، بلا أبٍ، بحسب إنسانيّته. هذه الإنسانيّة التي ولدتها الطوباويّةُ مريمُ العذراءُ هي، منذ الأزل، إنسانية ُ ابن الله نفسِهِ.

لأجل ذلك، فكنيسةُ المشرق الآشورية تتوجّه بالصلاة الى العذراء مريم على أنها والدةُ المسيحِ إلهِنا ومُخلّصنا. على ضوء هذا الإيمان عينه، يتوجّه التقليدُ الكاثوليكيُّ الى العذراء مريم بكونها والدة الإله وهي أيضاً “والدة المسيح”.”

ويُضيف الإعلان المشترك قائلاً:” مهما كانت اختلافاتُنا الخريستولوجيّة، نجد ذواتنا اليوم متّحدين في الإعتراف بإيمانٍ واحدٍ بابن الله الذي صار إنساناً ليُصبح البشرُ أبناء الله بنعمته. نريد منذ الآن أن نشهد معاً لهذا الإيمان بمن هو الطريقُ والحقُ والحياةُ لنُعلنه بطريقةٍ مناسبةٍ حتى يؤمن العالمُ بإنجيل الخلاص.”.

“الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الآشورية كنيستان شقيقتان، إلاّ انَّ الشركة الكاملة تتطلّب الوحدة الكاملة بشأن محتوى الإيمان والأسرار وتأسيس الكنيسة” . بالرّغم من ذلك، تُضيف الوثيقة، “فالشركة الروحيّة العميقة في الإيمان والثقة المتبادلة تمنحاننا القدرة على بلورة اسلوب ٍ يُخوّلنا من الشهادة معاً لبُشرى الإنجيل والتنسيق المشترك في ظروفٍ رعويةٍ محددةٍ ولا سيّما في مجال التعليم المسيحي وتنشئة الكهنة”.

وهكذا إذاً ، فإنَّ الخصوصيَّة المشرقيَّة لدى الكنيسة الكلدانيَّة لم تَكُنﹾ فقط رغبةً في التوصُّل إلى صيغةِ إيمانٍ مشترك يوقِّع على محتواها الآشوريون أيضاً … بل كانت سلسلةً طويلةً من محاولات الحفاظ على الأداء الشرقي في سياسة الكنيسة وصيانة الإكليزيولوجيا المشرقيّة الحقَّة. تجلّت هذه المبادرات من خلال مواقف السادة البطاركة والأساقفة الكلدان، عبر التاريخ. … ولا سيما في المجمع الفاتيكاني الأوَّل وقضيَّة الملبار والسعي إلى عيش مختلف أنواع الحياة المسكونيَّة على مستوياتٍ عدّة !

يرأس اليوم البطريركُ الكردينال مار لويس روفائيل ساكو الكليّ الطوبى*، الكنيسة الكلدانية في العالم ويعاونه أعضاءُ السينودس المقدَّس السادة الأساقفة الأجلاّء، يحاولون مع غبطته رعاية قطيع المسيح الموكل الى عنايتهم؛ في ظروفٍ صعبةٍ للغاية شهدت على إفراغ العراق والشرق الأوسط العربي من مكوّنه المسيحي تحت سطوة آلة العنف والموت التي عبثت بالبشر والحجر وما زالت تحوّل بقاعنا المباركة الى ساحاتِ ردى تفوحُ منها روائحُ الموت والدمار ويتصاعد من على حضيضها دُخان الحقد والشرذمة والعنصريَّة البغيضة.

صلاتُنا أن تبقى كنيستُنا الكلدانية، بتاريخها المجيد ورجالاتها الكبار… منارةً ونبراساً … ولؤلؤةً لامعةً وضّاءةً فريدةً  تشهد للمسيح المنتصر والقائم من الموت.

*وُلد مار لويس ساكو في مدينة زاخو – صطبلاني عام 1949. دخل معهد مار يوحنا الحبيب في الموصل عام 1963. رسم كاهناً في أبرشية الموصل الكلدانية في 1 أيار 1974. حصل على شهادة الدكتوراه في علم اباء الكنيسة من روما سنة 1983 ، وعلى ماجستير في الفقه الإسلامي سنة 1984، كما حاز لاحقاً على شهادة دكتوراه في تاريخ العراق القديم من جامعة السوربون في باريس سنة 1986. خدم في كنيسة ام المعونة في الموصل مدة 11 عاماً. عيّن مديراً للمعهد الكهنوتي البطريركي في بغداد عام 1997 وحتى 2001، وكان استاذاً في كلية بابل الحبرية. رسم اسقفاً على أبرشية كركوك الكلدانية في 14 تشرين الثاني 2003. وخلف البطريرك الكاردينال مارعمانوئيل دلّي في 1 شباط 2013. منح البابا فرنسيس البطريرك مار لويس روفائيل ساكو القبعة الكاردينالية  في20أيار 2018 وتم تنصيبه في رتبة الكردينالية في 29/6/2018.

مار لويس هو مستشار المجلس البابوي الحبري للحوار بين الأديان منذ 22/2/2019. له اصدارات ومقالات وبحوث كثيرة في مجلات محلية وعالمية تخطّى عددُها المئتَين، وله مؤلفات كثيرة تزيد على 20 كتاباً، فضلا عن المحاضرات العديدة التي ألقاها في مختلف الاندية الدينية والثقافية وفي الدورات اللاهوتية في الموصل التي ادارها لزمن. اشترك في محافل عدّة ومؤتمرات دولية، وكان عضوا في الهيئة السريانية في المجمع العلمي العراقي، وعضوا في هيئة تحرير مجلة “بين النهرين” ومجلة “نجم المشرق”. كما علّم في كلية اللاهوت بالمعادي – القاهرة 1988. وهو أيضاً عضو في مؤسسة “برو – اورينتي” (من اجل الشرق) ومقرها النمسا.

حاز البطريرك الكاردينال مار لويس ساكو على عدد من الأوسمة منها وسام الدفاع عن الايمان من ايطاليا، ووسام مؤسسة باكس كريستي الدولية ووسام القديس إسطيفان عن حقوق الانسان من ألمانيا. يتكلم البطريرك لويس اللغة الارامية، العربية، الايطالية، الفرنسية والالمانية.

عنوان البطريركية الكلدانية: المنصور، شارع النقابات، مقابل وزارة الكهرباء، صندوق بريد: 6122

الهاتف: 7701300922(00964)

عنوان البريد الالكتروني: [email protected]

عنوان الموقع الالكتروني: www.saint-adday.com

[1]  راجعخلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانيَّة”، ألّفها نيافة الكردينال أوجين تسران، سكرتير المجمع الشرقي المقدس ونقلها إلى العربية القس سليمان صائغ : الموصل ، 1939 : ” خلافاً للرسوم ولقوانين الكنيسة جمعاء، كانت الجثلقة (أي البطريركية) النسطورية قد آلت إلى تراث يقضي بأن يتوارثها ابن الأخ وابن العم عن العم منذ  سنة 1450 وفقا لمرسوم أصدره الجاثليق (أي البطريرك) شمعون الرابع. إلاَّ أنّه بعد موت شمعون السابع المعروف بابن ماما سنة 1551 أبى قسم كبير من الشعب النسطوري قبول دنحا ابن أخيه خلفاً له على الكرسي باسم شمعون الثامن. فانعقد اجتماع كبير في الموصل من الإكليروس والمؤمنين تحت رئاسة ثلاثة مطارنة كانوا ينوون الإتحاد مع الكرسي الرسولي. أجمعت الأصوات على رئيس دير ربان هرمزد : “سولاقا بن دانيال” البالغ من العمر يومئذ أربعين عاماً، ورافقه نحو سبعين عضواً من هذا الإجتماع إلى أورشليم ليأخذوا له رسائل توصية ومكاتيب من حارس الأراضي المقدسة، وكان هذا يومئذ ممثل الكرسي الرسولي في الشرق. فتعيّن ثلاثة من العلمانيين لمرافقة شمعون سولاقا مع رسالتَين إحداهما من أعضاء الإجتماع الموصلي والأخرى من السبعين الذين رافقوه إلى أورشليم. ولما وصل شمعون سولاقا إلى روما في 18 تشرين الثاني 1552 لم يبقَ معه من الثلاثة مرافقيه إلا واحد فقط. فبسط المسألة الكردينال مافيو (Maffeo) في مجمع الكرادلة المنعقد في 18 شباط 1553 وأعيد النظر فيها في ال 20 منه وفي هذا اليوم عينه تلى سولاقا صورة إيمانه الكاثوليكي. وأخيراً أُعطيَ الدرع المقدس (الباليوم) في الفاتيكان في 28 نيسان من السنة عينها. وقبل العودة إلى الشرق طلب سولاقا من الحبر الأعظم أن يُرسل معه إثنين من المرسلين الكفوئين ليساعداه في نشر الإيمان الكاثوليكي ما بين شعبه. فوقع اختيار البابا على راهبَين دومنيكيين من ملاطيا بداعي لغتهما العربية وهما أمبروسيوس وبوتيجييغ (Buttigieg) الذي أقيم أخيراً مطراناً شرفًيّاً  على آفار في 5 أيار 1553 والآخر هو أنطونان زهرا de Zahra أحد أقربائه. فسار البطريرك الجديد آخذاً البَر من طريق البندقيّة فالقسطنطينية فآسيا الصغرى. جعل مقامه في ديار بكر وكان وصوله إليها في 12 تشرين الثاني  1553.

إلاّ أنَّ حزب شمعون دنحا لبث يستخدم الحيَل للتخلُّص منه حتى استدعاه باشا آمد (ديار بكر) وألقاه في السجن وبعد أن قضى فيه أربعين يوماً مات شهيداً مغرقاً خفية في بدء سنة 1555. “

[2]  راجعالآشوريون والكلدان أو كنيسة ما بين النهرين”، ناجي نعمان ، المكتبة البولسية ، جونية، 2005 :  وقع الإنشقاق الأول عام 325 بين الكنيستَين بعدما ظهر آريوس وعلّم أنَّ المسيح ليس مُساوياً لله الآب في الألوهة ، وإنما هو إنسانٌ تبنّاه الله.  فدُعي جميع رؤساء الأساقفة والأساقفة في كنيسة ذلك الزمن إلى  الإجتماع في مدينة نيقيا لتوضيح العقيدة المسيحية في مقابل تعاليم الآريوسية وتمت إدانة آريوس.

[3]  مجمع أفسس، ثالث المجامع المسكونية، عُقد في أفسس عام 431 تمت فيه إدانة نسطور بطريرك القسطنطينية بسبب تعاليمه  التي تركز على كمال طبيعة المسيح البشرية لدرجة الفصل بينها وببين الطبيعة الإلهية ورفضه “لقب “أم الله وتبنّيه عبارة “مريم”أم المسيح” . فكان الإنشقاق الثاني بين الكنيستَين.

[4]  تتألّف بطريركية بابل للكلدان حالياً من الأبرشيات التالية : أبرشية بغداد البطريركية : غبطة البطريرك الكردينال مار لويس روفائيل ساكو، يعاونه المطارنة: 1- مار باسيليوس يلدو 2- مار روبرت جرجيس 3- مار شليمون وردوني فخراً، أبرشية البصرة والجنوب: سيادة المطران حبيب هرمز النوفلي، أبرشية كركوك والسليمانية: سيادة المطران يوسف توما مرقس، أبرشية أربيل: سيادة المطران بشار متي وردة، أبرشية الموصل: سيادة المطران ميخائيل نجيب. أبرشية القوش: سيادة المطران ميخا مقدسي، أبرشية عقرة تتألف من أربع قرى ويديرها حالياً : الأب فريد كينا يعاونه الأب فارس ياقو، أبرشية زاخو العمادية : سيادة المطران ربان القس، أبرشية أورميا وسلماس (إيران) : سيادة المطران توماس ميرم، أبرشية طهران (إيران) : سيادة المطران رمزي كرمو، أبرشية دياربكر (تركيا) يديرها :  المونسنيور فرنسوا ياكان والأب رمزي هرمز، أبرشية بيروت – لبنان : سيادة المطران ميشال قصارجي، أبرشية حلب – سوريا: سيادة المطران أنطوان أودو، أبرشية القاهرة – مصر : المونسنيور بولس ساتي، أبرشية مار أدي – كندا : سيادة المطران باواي سورو، أبرشية مار توما الرسول – شرق الولايات المتحدة : سيادة المطران فرنسيس قلابات، أبرشية مار بطرس وبولس الرسول – غرب الولايات المتحدة الأمريكية : سيادة المطران عمانوئيل شليطا، أبرشية مارتوما الرسول – أستراليا ونيوزيلندا – سيادة المطران إميل نونا – الإرسالية الكلدانية في أوروبا سيادة المطران سعد سيروب  حنّا ، النيابة البطريركية في الأردن : الأب زيد عادل حبابه، الأراضي المقدسة: النائب البطريركي للقدس سيادة المطران ميشال قصارجي، هذا وقد أسّست الكنيسةُ الكلدانيّة في العالم ، حيثما انتشر أبناؤها، عدداً كبيراً من المؤسّسات التربويّة والإستشفائية والرسولية والإجتماعيّة والإنمائية … بالرغم من تشرُّد مؤمنيها بسبب حرب العراق الأخيرة وما خلّفته من ويلاتٍ طالت الحجر والبشر.

مجازر سفربرلك

الكنيسة الكلدانيّة معنيّةٌ الى حدّ ٍ كبيرٍ جداً بالمجازر الوحشيّة التي شنّتها قوى الظلام في الامبراطوريَّة العثمانية العام 1915، الى جانب الكنائس الشقيقة، أي الكنيسة الأرمنيّة الأرثوذكسية والكنيسة السريانبة الأرثوذكسية والكنيسة الآشورية والكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة والكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة، بالإضافة الى الكنائس ذات التقليد البيزنطي.

ما يقارب مئتي ألف شهيدٍ من إكليريكيّين وعلمانيّين سقطوا على مذبح الدفاع عن إيمانهم بالناهض من القبر في اليوم الثالث، ليسطّروا بدمائهم العطرة تاريخ هذا الشرق المشرّف، الذي يفوحُ منه عرفُ الشهادة الطيّب الشذا معطِّراً الكون كلّه برائحة المسيح التي انعشت عالمنا الغارق في سُبات الظلام وغياهب الموت.

الذكرى المئوية لمجازر سفر برلك الأليمة تمتزجُ فيها ألوانٌ من العواطف المتشابكة، فبينما نأسفُ لاستشهاد أجدادٍ وآباءٍ، نعتزُّ بجهادهم ونفتخرُ بمآثرهم كأبطالٍ في الإيمان يستحقّون الطوبّى وأكاليل الخلود والمجد… ومن ثَمَّ نحزنُ أيضاً لأنَّ التاريخ يكرّر نفسه، على ما تشهدُ عليه مأساةُ العراق وسوريا… لا بل جلجلةُ الشرق الحزين الذي ينتظر بفارغ الصّبر فجر اليوم الثالث… أمَّا الشعورُ الأعمقُ والأكثرُ تأثيراً والذي تخلّفه لنا هذه الصفحة التاريخيّةُ المكتوبةُ بمِدادٍ دامٍ، فهو الشوقُ والحميّةُ والرغبةُ في التشبّثِ في الإيمان بالمسيح المصلوب بالرغم من العواصف العاتية ونوائب الدهر!

الكنيسة الكلدانية هي “كنيسةُ الشهداء” وبهذا الاسم عُرِفَت. لقد استشهد مبشّرها القديس توما الرسول دفاعاً عن إيمانه بالرب يسوع، وعلى خُطى الشهادة سار البطريرك يوحنا سولاقا وقبله شمعون برصبّاعي.

أمّا إذا أمعنّا النظر في مجازر سفر برلك عام 1915 وقافلةِ شهدائها، فلا بُدَّ لنا من ذكر الأب الشهيد حنّا شوحا والمثلث الرحمة المطران أديّ شير والمطران يعقوب اوراها والمطران توما اودو ومار توما رشّو… بالإضافة الى المعترفين، أي الذين احتملوا العذاباتِ والآلام في سبيل إيمانهم بالرب يسوع، كمثل المطران مار اسرائيل اودو ومار سليمان صبّاغ ومار بطرس عزيز ومار اوجين منا … ما عدا الألوف من الإكليريكيين والعلمانيين الذين نالوا إكليل الشهادة وهم يتشفّعون بنا اليوم في الملكوت السماوي.

لم تكُن مجازر “سفر برلك” محواً للعنصر البشرّي المسيحيّ فقط، بل طالت الحجر أيضاً… إذ قد استحالت تلك الأديارُ الأثريّة النفيسةُ بكنوزها الروحيّة والتاريخيّة خراباً وهباءً، كما اندثرت معالمُ دينيّةٌ وثقافيّة وحضاريّة  كُبرى في “نصيبيّين” وجبل “إيزلا” و “سعرت” و “وان” و “اورمية” و “سلامس” و “دياربكر” و “ميافرقين” و “الرُّها” و “ماردين” … مخلّفةً وراءها هشيماً وحجارةً اضحت اثراً بعد عين.

لقد اعترف قداسة البابا فرنسيس بحقيقة الإبادة التي شملت الشعب الأرمني والسرياني والأشوريّ والكلدانيَّ… فجميعُهم تعرَّضوا للتهجير والتعذيبِ والقتل في أماكنَ متقاربةٍ جغرافياً ما بين العامين 1915 و 1918.

هذا من شأنه أن يبعث في قلوبنا الرغّبة المتّقدة للشهادة معاً للمسيح الذي نؤمن به جميعُنا كإلهٍ ومخلصٍ. إنها “مسكونيّة الشهادة”، تجمعُ أبناء هذه الكنائس، ليُهبَّ الروحُ القدُس في حياتهم بزخمٍ أكبرَ، فيوحّدون جهودهم مع جهود أبناء الكنائس الأخرى التي تفخرُ هي أيضاً بشهدائها، حتّى نواصلَ جميعُنا رفع لواء المحبّة والمصالحة والتآخي وقبول جميع أنواع الاختلاف … من هنا، من على هذهِ الأرض التي شاركْنا في بنائها ونحنُ جزءٌ لا يتجزّأ من أبنائها وفيها نحن صامدون!

أيقونة شهداء الكلدان

تمثّل هذه الأيقونَةُ جميع فئات المجتمع الإكليريكي والمدني التي تعرَّضت للمذابح الوحشيّة المُسمَّاة “سفر برلك” خلال الأعوام  1914- 1918 .

الخلفيَّة الزرقاء للأيقونة تشيرُ الى السماء، في دلالةٍ على كون الشهداء قد بلغوا الرّبوعَ العلويَّة في اورشليم السماويَّة حيث الفردوسُ المشتهى… في مكان خُضرةٍ وراحةٍ. هذا ما ترمز اليه الأشجارُ المخضوضرة، وهي علامةُ الحياة المتجدّدة. في أعلى الأيقونة نرى السيّد المسيحَ لهُ المجدُ على سحابةٍ خفيفةٍ، يبارك بيمينه وبيساره يُكلّل شُهداءه بأكلَّة المجد والظفر.

يُحيطُ بالربّ يسوعَ كُلٌّ من والدة الإله والقديس توما الرسول مبشّر كنيسة المشرق. مريمُ العذراءُ تسلّم توما الرسول زنّارها الشريف الذي أحاط بجسدها الطَّاهرِ القابلِ الإله، على ما يُخبر التقليدُ المقدَّس. يُفيدنا الخبرُ أنَّ القديس توما قد حضر كباقي الرُّسل الى قرية الجسمانية محمولاً على السُّحُب، حينما بلغَهُ بوحيٍ إلهيّ نبأُ نياح السيّدة الفائقة القداسة. كما تأخَّر توما لينضمَّ الى جماعة التلاميذ عشيَّة يوم القيامة، تأخَّر أيضاً في بلوغه الأراضي المقدَّسة لتشييع أمِّ الحياة.

عندما وصلَ قدّيسُنا ، أخذه الرُّسل الى ضريح العذراء فأَلقَوه فارغاً إلاّ من روائح البخور وشذا الطيّب المتضوّع… وحينما كان توما راجعاً الى بلاد الهند ليستكمل رسالة التبشير، إذا بالسيّدة البريئةِ من العيبِ تشقُّ عباب القباب العلويَّة وتسلّمه ذخيرةً ثمينةً هي زنّارها الطّاهر الذي أحاط بجسمها الشريف الأرحبِ من السماوات.

 في وسط الأيقونة، حمامةٌ ترمزُ الى الروح القدس الذي انسكب من لَدُنِ أبي الأنوار على الشهداء فازدَروا بالفانيات ليكسَبوا الباقياتِ والخالداتِ في ديار النعيم.

في مقدّمة الأيقونة بطريركٌ وأسقفٌ وكهنةٌ وشمامسةٌ وشمّاساتٌ وعذارى وراهباتٌ وأراملُ… وخلفهم رهطٌ كبيرٌ من رجالٍ ونساءٍ وفتيانٍ وفتياتٍ وأحداثٍ وكهولٍ وشيوخٍ وعجائز يمثّلون بأزيائهم مختلف القرى والبلدات في بلاد ما بين النهرين ولا سيّما الأماكن التي شهدت المجازر المروّعة.

هذه الباقَةُ من الشخصيّات تمثّلُ جميعَ الشهداء في كنيسة المشرق الكلدانية ولا تعني أشخاصاً محدّدين… لأنَّ الأسماء لا تُحصى والأعداد تفوق المئتي ألف شهيدٍ وشهيدةٍ من إكليريكيين وعلمانيين… قد لقَوا حتفهم على مذبح الشهادة، دفاعاً عن إيمانهم وتمسُّكاً بصليبهم أداةِ فدائهم ورمزِ انتصارهم.

هذه الأيقونة الفريدةُ باركها كُلٌّ من الكاثوليكوس آرام الأوَّل كيشيشيان بطريرك بيت كيليكيا الأرمني الأرثوذكسي والمطران ميشال قصارجي رئيس الطائفة الكلدانية في لبنان، خلال الاحتفال الضَّخم الذي ضجَّت به كاتدرائية الملاك رافائيل يوم السبت 24/10/2015 عند السادسة والنصف مساءً، بمناسبة الذكرى المئويّة الأولى لمجازر سفر برلك.