بحضور راعي الكنيسة الكلدانية في لبنان المطران ميشال قصارجي و النائب الاسقفي العام المونسنيور روفائيل طرابلسي والشماس جوزيف ايشو, احتفل الاب يوسف خالد بخدمة تنزيل المصلوب و جنازة المسيح و ذلك عند الرابعة من عصرِ يوم الجمعة العظيمة في كاتدرائية الملاك روفائيل في بعبدا برازيليا .
و قد القى الاب يوسف كلمةً من وحي المناسبة قبل أن يطوف المحتفلون بنعشِ المخلص الحامل الحياة.

عظة الاب يوسف خالد…
إلهي إلهي لماذا تركتني
باسم الآب والابن والروح القدس.
أيها الإخوة والأخوات الأحبَّاء، وإذ قد بلغنا في تأملنا بالفصح المسيحاني ذروة الصراع الأخير الذي خاضه الرب يسوع، نتأمل صرخته وهو على خشبة الصليب: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟” (مت 27: 46)، مُستَلهِما مطلع المزمور الثاني والعشرين.
لربما تكون قراءتنا لهذه الصرخة مشكِّكة، إذ رغم كل ما نعرفه عن الرب يسوع، رغم كل ما قرأناه عنه في الإنجيل حين شفى المرضى وأحيا الموتى ونادى بشارة الملكوت، نراه يقف اليوم الرب يسوع أمام سرّي الألم والموت شخصيا. أ من المعقول أن يكون هذا المصير لابن الله؟ وكيف يمكن للإله المتأنس أن يموت! بل، هل يُعقل أن يتخلى الله عن ابنه الوحيد، تاركا إيّاه يعاني هذا المصير البشع!
هذا المزمور هو صلاة كلِّ من يعاني الألم من أبناء شعب إسرائيل. في الروحانية اليهودية القديمة، تُعتبَر صلاة جزء من المزمور تلاوة المزمور كله. لذا، فإن إبحارا بباقي آيات هذا المزمور تُخرجنا من حلقة الشك هذه.
فما أن يًطلق صاحب المزمور صرخته هذه، حتى يعلن أن لا خلاص له إلاّ بإلهه، فيقول: “هيهات أن تخلّصني كلمات زئيري!” (مز 22: 1)، مذكِّرا بصنائع الله لشعبه: “عليك توكّل آباؤنا توكلوا فنجيتهم. إليك صرخوا فنجوا وعليك توكلوا فلم يخزوا” (مز 22: 4-5).
وإن عاد ليسكب ألمه أمام الله، فإن المزمّر يُعلن إيمانه بأن الله “لم يزدر بؤس البائس ولم يستقبحه ولا حجب عنه وجهه وإذا صرخ إليه كان سميعا” (مز 22: 24). ويختم مزموره بأن يُمجّد الله يُبشّر ببِرِّه “لأنه قد صنع صنيعا” (مز 22: 31).
هذه هي صرخة الرب يسوع على الصليب؛ وقد عبِّر بهذه الصرخة عن ألمه الذي بلغ أقصاه على الصليب. إنّها صرخة إنسان سحقه الألم رغم أمانته لإلهه، رغم تفانيه في البشارة بملكوته، رغم كل مرّة رفع عن كاهل إنسان ألمه، كما فعل في أعاجيب الشفاء وإحياء الموتى.
ورغم كل هذا، لم يترك الربُّ يسوع إيمانه، ولم يتخلَّ عن إلهه، فها هو ذا يناديه “إلهي”، ليس خشية أن يتركه إلهه، إنما إعلانا منه أنه سيبقى الابن الأمين له، كما قال الرسول بولس: “إنه أطاع حتى الموت موت الصليب” (فيل 2: 8)، مؤمنا في الوقت ذاته أن إلهه، الله أباه الذي أحبّه واعتاد أن يناديه: “أبّا، يا ابت” (رو 8: 15)، لن يتركه، كما يقول كاتب المزمور السادس عشر: “فرح قلبي وابتهجت نفسي حتى جسدي استقر في أمان، لأنك لن تترك في مثوى الأموات نفسي ولن تدع صفيك يرى الهوة. ستبيّن لي سبيل الحياة. أمام وجهك فرح تام وعن يمينك نعيم على الدوام” (مز 16: 9-11).
بهذا الروح يطلق الرب يسوع صرخته هذه. وبهذه الروح ذاته، يطلق همسته الأخيرة، حين لفظ الروح، مستودعا ذاته بين يدي أبيه السماوي.
إخوتي وأخواتي
يرزح العالم اليوم تحت نيرٍ ثقيل جدا، وباء فيروس كورونا الذي على صليبه عُلِّقت البشرية جمعاء، ولسان حالها يصرخ: “إلهي إلهي، لماذا تركتني!”ن وقد تجاوز عدد المصابين المليون، آلاف يموتون يوميا، ومئات الألوف يعانون ثقل هذا الوباء الجاثم على صدورهم.
نحن اليوم أمام تساؤل، لطالما أطلقه الإنسان إزاء سر الألم والموت، هل يمكن لله أن يكون قد تخلّى عنّا… إنها العودة إلى المربع الأول في ما يختص بهذا السؤال المشكك. هذه هي محنة الإيمان التي نمر بها اليوم.
قبل بضعة أيّام، في جمعة لعازر تحديدًا، تأملنا إحياء الرب يسوع لصديقه لعازر، في اليوم الرابع و”قد أنتن” (يو 11: 39)، حينها قال الرب يسوع: “هذا المرض لا يؤول إلى الموت، بل إلى مجد الله، ليمجد به ابن الله” (يو 1: 4). فهل يمكن لفيروس كورونا الذي يحصد أرواح الآلاف يوميّا أن يؤول إلى مجد الله!
نعم. فكما كانت القيامة جوابا على الصليب، وكما تجلّت أمانة الله في القيامة جوابا لأمانة الرب يسوع على الصليب، هكذا سيكون مجدٌ لله بالرغم من كورونا؛ في كل طبيب أو ممرض يقاتل في الخط الأول من أجل تخفيف الألم الناتج عنه وصدّ خطره، في كل إنسان يلتزم بإجراءات الوقاية فيُسهم في انحسار مد العدوى، في كل إنسان يُشفى منه ويشكر الله، في كل من ضعف جسده عن مقاومة المرض فلفظ أنفاسه الأخيرة مستودعا روحه بين يدي الآب (لو 23: 46).
إخوتي وأخواتي
لم ينطلق الإيمان المسيحي من رواية الآلام، وإنما من حدث القيامة… ولم ينطلق التلاميذ بالبشارة من القبر المغلق بالحجر، بل من القبر الفارغ… فبعد الجمعة العظيمة هناك فجر الأحد.
هذا هو إيماننا، وبه نواجه هذا الشر الذي يجتاح العالم اليوم… هذا هو رجاؤنا، وبه نتغلب على الشك الذي يسعى هذا الشر أن يزرعه في قلوبنا… هذه هي محبتنا لله أبينا وللإنسان قريبنا، وبها نسعى معا، بالالتزام والصلاة والعمل لوأد هذا الموت الذي يتهدد حياتنا… جمعة كورونا العظيمة ستمر، وشيُشرق أحد قيامة جديد، بنعمة الرب يسوع، وشفاعة أمّنا العذراء. يتمجَّد الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، ولتكن بركة الربِّ معكم جميعًا، آمين.